بعد لحظات رعب على الحدود الغامبية.. الصعود إلى الطائرة الجزائرية.

إعداد: محمد سالم الشافعي و عبد الكبير أخشيشن.

خلال الرحلة التي دامت لأكثر من سبع ساعات من دكار حتى الحدود الغامبية، كنت كلما توقفت السيارة عند حاجز للتفتيش أيقنت أنها الأخيرة‪، وتخيلتنا مقيدين نساق إلى مخفر ليتم تسليمنا إلى المجهول، وذلك لكثرة ما أشعرنا مرافقنا بأننا معرضون للخطر. وأذكر أننا ونحن نخرج مع بزوغ الشمس من مدينة «كولخ» في الشرق السينغالي شاهدت شرطيا أمامنا وهو يستعد ليوقف السيارة التي نستقلها، وفي لمح البصر تخيلت سيناريو‪ :أن ليبيا يومها تعد من أهم الداعمين للبوليساريو وربما لأن بعضنا يعتنق «النظرية العالمية الثالثة» وليبيا بالنسبة له مفتاح الفرج لكل التائهين.

كنا في الطريق وأعيننا في الأعلى بحثا عن راية خضراء، قابلتنا بوابة معسكر يحرسها جندي، فارتأى أحدنا أن ذلك الجندي هو من سيدلنا على الطريق، وليت الذي ارتأى منا الرأي ما ارتأى، فحين سألناه أشار لنا بأن ننتظر ثم سد البوابة ودخل وكنا نعتقد أنه ذهب ليحضر من سيرافقنا، لكنه لم يعد حتى كانت سيارة لاندرو فير تقف أمامنا وينزل منها جنود ويأمروننا بالصعود، ومع أن الأمر جاء مفاجئا وصادما إلا أننا لم نرتبك وصعدنا بهدوء، ثم صعد الجنود معنا بأسلحتهم، ثم انطلقت السيارة، وبعد عدة دورات دخلوا بنا من باب خلفي لمخفر للشرطة وأمرونا بالنزول، ثم ساقونا إلى الداخل لنجد في استقبالنا من بدا أنه آمر المخفر، وكان لحسن الحظ يتكلم الفرنسية، وحين بدأ متحدثنا (أمان ولد الخالص) يروي له قصتنا، وقبل أن يوضح له أي شيء رن هاتف مكتبه فرد على المتصل وخرج مسرعا، بعد أن أمر شرطيا بحراستنا وأن يسد الباب.

مرت عدة ساعات ونحن في وضع لا أعتقد أن أحدا يحسدنا عليه، نحن في مخفر للشرطة وشرطي يقف فوق رؤوسنا ولا نعرف سبب إيقافنا، آمر المخفر ذهب ولم يعد، الشرطي الذي يحرسنا رفض السماح لأي منا بالخروج من أجل شراء السجائر التي نفدت منا ويومها كان ثلاثة منا من كبار آكليها حتى لا أقول من مدخنيها، وذلك موقف لا يقدره إلا المدخنون. أمام هذا الوضع القاتم لم تبق فكرة سوداء يمكن أن تخطر على البال إلا وفكرت فيها، غير أنه من حسن الطالع أن صوت ذلك الآمر قطع حبل أفكاري السوداء وهو يدخل علينا معتذرا عن التأخر كل هذا الوقت، بسبب ما قال إنه استدعاء للإشراف على تخطيط حادث مرور وقع بالتزامن مع دخولنا عليه.

بدأ الاستماع إلينا من جديد، وبعد أن شرحنا له سبب وجودنا رفع سماعة الهاتف وأجرى مكالمة بعدها بدقائق قليلة كانت سيارة تابعة لمكتب البوليساريو تقف أمام الباب ونزل منها شخصان، أحدهما داهي ولد «بنيجارة»، وهو شاب خلوق ومعروف لدى العديد من الشباب الذين درس معهم في إعدادية أطار في الشمال الموريتاني ويعمل مسؤول المكتب، بينما لم يكن الشخص الثاني سوى (فريد) أو أحمد سلامه أبريك، الذي فر بالسيارة من الحدود وتركنا نواجه المشاق، مدعيا أننا تأخرنا واعتقد أنه «قبض» علينا، ولم نكن يومها نعرف أنه سيأتي اليوم الذي ستدمي فيه سوطه أجسادنا دونما شفقة ودونما ذنب اقترفناه. خرجنا من مخفر الشرطة وتم نقلنا على دفعتين، حيث إن السيارة التي يستقلها مستقبلانا كانت صغيرة لا تتسع لنا جميعا، وحين وصلنا إلى الفندق الذي تتخذ منه البوليساريو مقرا لمكتبها جهزوا لنا غرفة كبيرة بملحقاتها وزودونا بمستلزمات الشاي، وقد ألح مسؤول المكتب نفسه (داهي ولد بنيجارة) بأن يعد لنا الشاي بنفسه، وحين رفضنا خرج وطلب منا أن نخبره إن احتجنا لأي شيء، وأن نحاول أن نستريح قدر المستطاع، لأن أمامنا غدا رحلة طويلة وشاقة.

في مساء اليوم الموالي وكان يوم العشرين من أبريل 1979، انطلقنا نحو المطار بصحبة مرافقنا الجديد وجلادنا في المستقبل (أحمد سلامة أبريك)، وفي المطار أذكر أنه عندما هم أحد أفراد الجمارك بتفتيش أمتعتنا اليدوية احتج عليه بأنها أمتعة دبلوماسية فأشفقت على الدبلوماسية من نعل مغبر كان مدسوسا تحت الملابس وكأن ذلك الجمركي اضطلع على ما كنت أفكر فيه، فأخرج ذلك النعل الذي ليس غريبا علي ورفعه وهو يبتسم ساخرا: «هل هذه أمتعة دبلوماسية ؟».

بعد عملية التفتيش «الدبلوماسية» المهينة تلك صعدنا وأقلعت بنا طائرة الخطوط الجوية الجزائرية في حدود الساعة السادسة مساء، وكانت شبه خاوية، فباستثنائنا نحن الأربعة ومرافقنا، لم يتجاوز عدد الركاب خمسة أشخاص فقط، بل إننا سنكتشف لاحقا أن أحد هؤلاء الركاب الخمسة هو شاب موريتاني من قومية (البولار) يدعي أنه «معارض للنظام الموريتاني»، ومن خلال انزعاج مرافقنا من الحديث معه، عرفت أن ثمة سر في الأمر لا يريدنا أن نضطلع عليه. وخلال حديثي المقتضب معه حدثني عن التمييز ضد الزنوج في موريتانيا، وعن رسالة 19 إطارا زنجيا التي صدرت سنة 1966.

Haut du formulaire

 

محمد سالم الشافعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: هذا المحتوى محمي من القرصنة