25 سنة التي غيرت الكثير


بقلم عبد الهادي مزراري

“سنقوم بدور الموجه المرشد والناصح الأمين والحكم الذي يعلو فوق كل انتماء”.
بهذه العبارة بدأ جلالة الملك محمد السادس فترة حكمه، وكانت عبارة نطق بها في أول خطاب وجهه إلى الشعب المغربي بمناسبة توليه العرش، في 30 يوليوز 1999 خلفا لوالده الملك الحسن الثاني رحمة الله عليه.
لم يكن تعهدا سهل التنفيذ لو لا الإرادة الصادقة عند الملك محمد السادس، لجعل كل الأطياف السياسية تقف على مسافة واحدة من القصر الملكي. وهي عملية صعبة ومعقدة في ظل وجود أوراش اجتماعية واقتصادية مفتوحة تنتظر إصلاحات جذرية للإرث الثقيل للإدارات السابقة في قطاعات كثيرة، وما كانت تتسم به مع أعطاب في الشكل والمضمون.
على الصعيد السياسي، وخلال فترة حكم الملك محمد السادس تعاقبت كل الأحزاب السياسية على السلطة، من اليمين والوسط واليسار إلى التيار الإسلامي، الذي تولى رئاسة الحكومة لولايتين تشريعيتين.
حدث ذلك رغم مرور المغرب بأخطر محطتين، كانت المحطة الأولى خلال تعرض البلاد لأحداث إرهابية في 16 ماي 2003، وكان من شأنها أن تقوض المسلسل الديموقراطي، لكن إصرار الملك محمد السادس على المضي في الإصلاحات السياسية جعل المغرب يفصل بين ما هو في صلب الدواعي الأمنية، وبين ما هو في صلب المساعي الديموقراطية.
أما المحطة الثانية، كانت إبان اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011، التي قلبت الأنظمة الحاكمة في مصر وتونس وليبيا وبعدها في السودان، وأدخلت سوريا في حرب بلا هوادة ما تزال مستمرة حتى اليوم. بينما خلفت هذه الثورات أزمات خطيرة وأغرقت هذه البلدان في برك من الدم، وعطلت كافة مظاهر الحياة فيها.
لم يواجه الملك محمد السادس شعارات حركة 20 فبراير، الداعية إلى الإصلاح بالرشاشات والدبابات كما فعل قادة عرب آخرون، وإنما خرج في 9 مارس 2011، في خطاب إلى الشعب المغربي بسط فيه كل الرؤى الممكنة للتعامل مع كافة المطالب، بلغت حد الإعلان عن تأسيس دستور جديد، شاركت في صياغة فصوله كل القوى الحية في البلاد، ثم عرض للتصويت عليه على استفتاء شعبي في 1 يوليوز 2011.
في إطار الدستور الجديد وضعت حدود جديدة للفصل بين السلط، وظهرت المؤسسات التالية كل واحدة على مسافة من الأخرى:

– السلطة التشريعية متمثلة في البرلمان.

– السلطة التنفيذية متمثلة في حكومة منبثقة عن البرلمان يرأسها الحزب الفائز بأكبر عدد من الأصوات في الانتخابات (إحداث منصب رئيس الحكومة، عوضا عن الوزير الأول).

– السلطة القضائية متمثلة في المجلس الأعلى للسلطة القضائية ويرأسه الملك، وهي المرأة الأولى، التي يتم فيها في تاريخ المغرب فصل مؤسسة النيابة العامة عن وزارة العدل. مع إطلاق ورش إصلاح منظمة العدالة الذي تم في العام 2013.

– المجلس الأعلى للأمن، وهو مجلس ينص عليه الفصل 54 من الدستور، وهو هيئة للتشاور بشأن إستراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، وتدبير حالات الأزمات والسهر، أيضا على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة. ويرأس الملك هذا المجلس، وله أن يفوض لرئيس الحكومة صلاحية رئاسة اجتماع لهذا المجلس، على أساس جدول أعمال محدد.


وتجذر الإشارة إلى أن المجال الأمني في عهد الملك محمد السادس عرف تطورا غير مسبوق، حتى أصبح يشكل حالة متقدمة مشهود لها بالكفاءة والنجاعة على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
خلال أول انتخابات بعد المصادقة الشعبية على الدستور الجديد، صعد أول حزب تابع للتيار الإسلامي إلى السلطة، وهو حزب العدالة والتنمية، وكان ذلك في استحقاقات 25 نونبر 2011، وهي انتخابات مبكرة جرت قبل موعد الاستحقاق الانتخابي الذي كان مقررا عام 2012.
في الوقت الذي تعرض فيه الإسلاميون في دول أخرى، للاعتقال والنفي في تونس ومصر والجزائر وسوريا والسودان، استقبل مقر رئاسة الحكومة في المغرب للمرة الثانية الحزب الإسلامي نفسه، الذي فاز في الانتخابات التشريعية التي جرت في شتنبر 2016، واستمر في أداء مهامه حتى إتمام ولايته في عام 2021.
خلال ربع قرن تأكدت الأحزاب السياسية على حد سواء من حجم موقعها في المشهد السياسي، وسلمت قدرها إلى صناديق الاقتراع، واعية تمام الوعي بأنها جزء من باقي الأجزاء الأخرى المكونة للدولة. وهذا انطباع طال حتى حزب “الأصالة والمعاصرة”، الذي أطلق عليه بعض السياسيين غداة تأسيسه لقب “الوافد الجديد”، وتوافد على قيادته أكبر عدد من الأمناء العامون في ظرف قياسي، انتهى المطاف بمعظمهم إلى الزوال من المشهد السياسي.
حاز المغرب خلال المحطات الانتخابية على اعترافات من منظمات دولية وإقليمية شاركت في مراقبة الانتخابات، وزكتها اعترافات الأحزاب السياسية نفسها بأن الانتخابات صارت تجري في المغرب في شفافية ونزاهة، مسجلة في الوقت نفسه بعض الطعون بشأن حالات معزولة تم إحالتها على القضاء.
على الصعيد الاجتماعي، أطلق المغرب في عهد الملك محمد السادس إصلاحات جذرية همت مجال الأسرة من خلال مدونة الأسرة، التي دخلت حيز التنفيذ عام 2004، وهي موضوع إصلاح جديد في عام 2024. كما توسعت في عهد الملك محمد السادس مجالات تطبيق حقوق المرأة والطفل والفئات ذوي الاحتياجات الخاصة.
كما عمل المغرب على تبني نظام اجتماعي للتغطية الصحية يستهدف الفئات الهشة في المجتمع، وهو نظام تم على مرحلتين، مرحلة راميد، ثم مرحلة التغطية الصحية الشاملة، التي يتم في إطارها صرف دعم مالي مباشر للفئات الاجتماعية المعوزة.
فضلا عن ذلك كان الملك محمد السادس أعطى انطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في 18 ماي 2005، وهي الأولى من نوعها وطنيا وإقليميا وقاريا، وتستهدف إحداث وإنجاح مشاريع تنموية لفائدة المواطنين من خلال الجمعيات الناشطة في مختلف المجالات السوسيو اقتصادية.
وفي إطار تعزيز شروط العيش الكريم للمواطن المغربي، أطلق الملك محمد السادس أيضا أوراشا لإصلاح قطاعات كل من العدالة والتربية والصحة والسكن والثقافة والرياضة، مؤشرا بذلك للمسؤولين في هذه الميادين اتخاذ المبادرات اللازمة من أجل تطوير أنظمة العمل، وتحديث سبل معالجة الملفات، وتنويع الخدمات وتجويدها. وأسفرت هذه المبادرات عن تشييد تجهيزات ضخمة وحديثة من مستشفيات ومسارح ومراكز إيواء وجامعات وملاعب رياضية.
في عهد الملك محمد السادس رأت مجموعة من المؤسسات النور في طليعتها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، المجلس الوطني للصحافة، أكاديمية محمد السادس لكرة القدم، وغيرها من المؤسسات التي تم تأسيسها بدافع تطوير قطاعات تتصل بالحياة الاجتماعية للمواطن المغربي.
في السياق الاجتماعي ذاته، ومن أجل تعزيز المكتسبات الروحية والمعنوية للشعب المغربي، أطلق الملك محمد السادس ولأول مرة دعوة للاعتناء بالتراث الوطني اللامادي، وهو مشروع تبين في ما بعد عمقه الاستراتيجي في حفظ الهوية المغربية في جميع المجالات الفنية والثقافية والروحية والمعمارية، وهو مشروع يروم حفظ وصيانة المنظومة الحضارية للأمة المغربية.
على المستوى الاقتصادي، سلك المغرب منذ تولي الملك محمد السادس العرش “خيار الإقلاع” في مختلف القطاعات الاقتصادية، منطلقا من آخر ما توصلت إليه أنماط الإنتاج في الدول المتقدمة. وعلى إثر ذلك أطلق سلسلة من المخططات طالت المجالات الزراعية (المخطط الأخضر)، والصناعية (مخطط الإقلاع الصناعي)، والسياحية (المخطط الأزرق).
في المجال الصناعي تقدم المغرب في صناعات السيارات وأصبح يحتل المرتبة الثالثة عالميا في عام 2021، من حيث التنافسية في صناعة السيارات، بعد الهند والصين. كما قطع أشواطا مهمة على طريق صناعة الطائرات، خاصة في مجال الإلكترونيات الدقيقة، فضلا عن صناعات حديثة كثيرة ازدهرت في مجالات مختلفة وأصبح جزء منها يصدر نحو الخارج.
في القطاع الفلاحي، ورغم التحديات التي يواجهها المغرب بسبب دورات الجفاف المتكررة، ظل يتصدر سلم الدول المصدرة للغذاء، معززا الأسواق في أوروبا وأفريقيا وبعض دول آسيا بما تحتاجه، خاصة من الخضروات والفواكه والأسماك. وتأكدت نجاعة السياسة الفلاحية التي نهجها المغرب إبان فترة جائحة كورونا بين عامي 2020 و2022، عندما فرضت على الدول حالة الإغلاق الشامل.
في قطاع الخدمات، أدرك المغاربة ومعهم من يزور المغرب من مختلف دول المعمور، أن مظاهر الحياة تغيرت بشكل كبير سواء تعلق الأمر بالعمران في المدن المغربية، أو بالبنيات التحية من طرق سيارة ومطارات ومحطات للقطارات والحافلات، فضلا عن المرافق السياحية منتجعات وفنادق ومطاعم ومقاهي وفضاءات التسوق الكبرى، في ظل تطور واضح لمستوى العيش خلال العقدين الماضيين، ويشمل ذلك قطاع الاتصالات والأسفار والاستهلاك وارتفاع نسبة المقتنيات من السيارات والآلات الإلكترونية.
لم يأت ذلك من فراغ، وإنما بسبب إصرار الملك محمد السادس على توظيف المال في عملية النمو الشامل، الذي مهد له بالميثاق الجديد للاستثمار، وخلق مناطق اقتصادية حرة، وعقد اتفاقيات شراكة استراتيجية للتبادل الحر مع دول مثل الولايات المتحدة وتركيا والإمارات العربية المتحدة.
كل ذلك ساهم في بناء مناخ الأعمال الذي جعل من المغرب قبلة لاستثمارات دولية في مجالات الصناعة والطاقة والزراعة والبناء من دول مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة وألمانيا وتركيا، فضلا عن الوضعية الاستثمارية المتقدمة لدول مثل إسبانيا وفرنسا وبريطانيا.
لا يتوقف اهتمام الملك محمد السادس عن تقوية الدرع الاقتصادي للمغرب من داخل البلاد وإنما يهدف جعل المغرب شريكا اقتصاديا مهما في قارة إفريقيا، التي خص بلدانها بأكثر من 50 زيارة ووقع نحو 1000 اتفاقية تطال مجالات التعاون المختلفة.
ويرى المراقبون أن الجانب الأكثر روعة في مبادرة الملك محمد السادس تجاه إفريقيا، كونها تصب في التعاون جنوب جنوب على أساس القاعدة الذهبية رابح رابح. وهي القاعدة التي آمن بها ملك المغرب وطبقها وأسفرت عن كل هذا التغيير الذي طال البلاد التي يتربع على عرشها.

محمد سالم الشافعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: هذا المحتوى محمي من القرصنة