“حياة الماعز” و”حياة الكلاب”


بقلم: عبد الهادي مزراري


فجأة ظهر فيلم هندي بعنوان “حياة الماعز”، يحكي قصة مستوحاة من حادثة يقال إنها واقعية، حصلت في السعودية، بطلها شخص قادم من الهند للعمل في المملكة.
من قاعة الوصول في المطار يختطفه مواطن سعودي على أساس أنه كفيله، ويصطحبه وبرفقته شاب هندي آخر إلى حظيرة للماعز في بطن الصحراء في منطقة تدعى حفر الباطن.
هناك حفر له الكفيل قبر حياة الذل، كما يصورها الفيلم الهندي باستخدام أقوى تقنيات الإثارة السمعية والبصرية.
مضت سنوات على العمل الشاق، بعدها يتمكن البطل من الهروب في رحلة معاناة أخرى في طريق صحراوي مجهول لا يدل إلا على الموت.
وصل البطل إلى المدينة، لكن حظه التعس أسقطه في يد الشرطة، ولأنه بدون وثائق سوف يسجن لسنوات أخرى قبل أن يتم ترحيله.
حصد الفيلم رقما قياسيا في المشاهدة يقال إنها تجاوزت المليار متابعة، مكرسا صورة فاضحة للسعودية، بعدما وجه لها ضربات في المقتل ضد تشريعات وأعراف سائدة في المملكة مثل نظام الكفيل، وقوانين الدولة، وسلوك الأشخاص الذين أظهرهم الفيلم في أبشع صور الغلضة والقسوة.
توالت الانتقادات ضد السعودية خاصة من لدن الجهات والأشخاص الذين يوجدون في خط المواجهة معها سياسبا واجتماعيا وحتى مذهبيا، فانهالت على الرياض الضربات من كل حذب وصوب.
تقدمت ساحة الانتقاد أقلام وأصوات الشيعة حيثما وجدوا، وكذلك من التيارات السياسية والإعلامية والثقافية المحسوبة على جبهة “الممانعة”، وبطبيعة الحال قسم من الرأي العام الذي تأثر بالفيلم وعنده في ذاكرته حالات مماثلة لمعاناة فئات من العمالة الأجنبية في السعودية.
من غرائب فيلم “حياة الماعز”، أنه جرم دولة بكاملها شعبا وقيادة مثلما ما يؤاخذ الحكم الجار جارا بجرم جاره. وهنا مربط فرس المتنبي حين قال:
ظلم لذا اليَومِ وَصْفٌ قبلَ رُؤيَتِهِ
لا يصدُقُ الوَصْفُ حتى يَصدُقَ النظرُ
لم ينظر الفيلم الهندي إلى أجزاء كثيرة من حياة البطل في القصة الواقعية، وتغافل عنها عنوة، لأنه لو تطرق إليها سيكون الفيلم بدون ذخيرة حية، وسيكون خاليا من الطلقات التي يراد منها استهداف السعودية، وفي هذا التوقيت بالذات.
أهم واقعة تغافل الفيلم عن ذكرها هو أن البطل تمكن في الأخير من قتل الكفيل، ولاذ بالفرار، وعندما عثر عليه، جرى تقديمه إلى العدالة، وصدر بحقه حكم بالإعدام، وظل في السجن خمس سنوات.
في صبيحة أحد الأيام في بداية التسعينيات من القرن الماضي، (لأن جذور القصة بدأت في ثمانينيات القرن الماضي)، وبينما محافظ المدينة ينظر في ملف الشخص الهندي، ويطلع على تفاصيل قصته التي عانى فيها كل انواع الظلم، طلب من أعضاء المجلس جمع مبلغ مالي لعرض الدية على أهل الضحية من أجل الإفراج عنه، وكان المبلغ المحدد شرعا في 120 ألف ريال سعودي.
تمكن المتبرعون من جمع 170 ألف ريال، قصدوا بها أبناء الضحية، وطلبوا منهم الصفح عن الشخص الهندي. وهنا كان الرد مفاجئا:
“والدنا رحمة الله عليه كان مخطئا، ولكي يكفر عنه الله السيئات، نصفح عن الهندي لوجه الله ونطلب بجعل 170 الف ريال لفائدته تكفيرا عما عناه عسى أن يتقبل الله منا”.
بينما كان المواطن الهندي بنتظر تنفيذ حكم الإعدام، إذا به يستدعى إلى مكتب المحافظ ويبلغ بحكم الفعو وبمبلغ 170 الف ريال مكافأة له.
استغرب الرجل المشهد وسأل عن سبب هذا التحول غير المرتقب، أجابه أحد الحضور بأن دين الإسلام في حال ارتكاب جريمة القتل العمد يمكن اسقاط عقوبة الاعدام وتعويضها بالدية.
بعدما أخبروه بتفاصيل المبادرة، سألهم هل الكفيل “مسلم”؟ قالوا له “نعم إنه مسلم، لكنه لم يحترم تعاليم الإسلام”. ساعتها أعلن الهندي إسلاهه وعاد إلى بلاده.
غقل فيلم “حياة الماعز” هذه التفاصيل، وتعمد إخفاء تاريخ الواقعة ليجعلها في الحاضر قريبة من الرأي العام لإثارة سخطه العارم. ونجح في ذلك إلى حد يمكن القول إنه يعاقب السعودية على شيء ما فعلته.
نترك “حياة الماعز” وننتقل إلى “حياة المفترسات” حيث يستعمل السياسيون أمهر أساليب الخداع والمكر لافتراس الضحايا، تعرف منطقة الشرق الأوسط أبشع مجازر القتل تقوم بها إسرائيل منذ قرابة العام ضد شعب أعزل، ومن أجل استدارة انتباه الرأي العام عن “حياة المفترسات” يجري نشر فيلم عن “حياة الماعز”.
منذ نحو 5 سنوات تقريبا سلكت السعودية طريقا لا يرضي الغرب، وعززت علاقاتها بالصين وروسيا، وانتهى الأمر إلى التطبيع مع إيران والانسحاب من حرب اليمن، كل ذلك جعل الرياض تغير موقعها الذي كان الغرب يريدها أن تظل فيه إلى أبد الدهر.
من جهة أخرى، اتخذت السعودية قرارات اقتصادية شملت مشاريع واستثمارات تصب جلها في تقوية الاقتصاد الصيني، كما تصدرت في منظمة اوبك واببك بلوس قرارات تدعم الموقف الروسي واعلنت عن أكبر حصة لخفض الانتنتاج بلغت مليوني برلميل يوميا.
فضلا عن ذلك، ظلت بخلاف جيرانها في الخليج الإمارات وعمان والبحرين وقطر تربط التطبيع مع إسرائيل بإنشاء الدولة الفلسطينية. كما فاجأت الغرب وفي المقدمة أمريكا بأنها أوقفت حتى التفكير في التطبيع مع إسرائيا بعد اندلاع الحرب الإسرائيلية في غزة.
بطبيعة الحال، مثل هذه القرارات والمواقف لا يمكن أن يتوقع المحللون السياسيون أنها ستمر مرور الكرام لدى الغرب. ولذلك لا بد من انتظار مزيد من الضربات تحت الحزام.
في عام 2000 زارت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت الرياض، واجتمعت مع الملك عبد الله بن عبد العزيز، وببنما كانت تتحدث إليه عن الخطر الذي يمثله العراق على المنطقة بقيادة صدام حسين، قال لها الملك عبد الله مازحا:
“سأحكي لك عن قصة يرويها البدو عندنا، كان لأحد الرعاة قطيع من الغنم، وذات مرة جاءه أحد السماسرة ونصحه طالما يخشى على غنمه من الذئب أن يضاعف عدد كلاب الحراسة”.
سألته أولبرايت وماذا بعد؟
أجابها الملك عبد الله: “كان في كل يوم يذبح شاة لإطعام الكلاب حتى قضى على قطيعه بيده”.
لا شك أن السعودية اليوم تريد التوقف عن إطعام الكلاب وبشكل طبيعي سيكثر النباح.

محمد سالم الشافعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: هذا المحتوى محمي من القرصنة