طريق البحث عن العائلة.. الدخول للعاصمة نواكشوط
محمد سالم الشافعي/ عبد الكبير اخشيشن / انطلقت بنا الشاحنة قبل صلاة المغرب بقليل، ومنذ تلك اللحظة، لم يعد أمامي من أمر أفكر فيه سوى الطريقة التي سأهتدي بها إلى مكان العائلة، إذ لا فكرة لدي عنه سوى أنني أيام كنت في ليبيا علمت أنهم سكنوا في مقاطعة الميناء، التي تشكلت بعدي في مكان تركته يوم رحيلي لا يوجد فيه من المساكن المعروفة سوى دار واحدة كان بعض الأوروبيين يربي فيها الخنازير فاشتهرت بدار الخنازير، لذلك استبعدت البحث عنهم دون دليل، وقررت أن أذهب أولا إلى دار عمتي وعمي في مقاطعة تيارت، والتي كنت أعرف مكانها جيدا، حيث كانت هي مقر سكني أيام الدراسة.
حين دخلنا مدينة نواكشوط في الصباح الباكر ورأيت الامتداد الرهيب للمدينة ونزلت أول دفعة من الركاب في دار السلام، عرفت أنني سأتوه لأن ذاكرتي مازالت محتفظة بأن آخر نقطة من المدينة في اتجاه الشمال هي مقاطعة تيارت التي هي مقصدي فإذا بي أعرف أنها مازالت أمامي، لذلك بقيت أراقب أحد الركاب سمعته يقول للسائق بأنه سينزل في نفس المكان الذي أقصده، ولم ينزل ذلك الشخص حتى كنت معه على الأرض وأتبعه نحو الشارع العام.
حين وصلت إلى الشارع ونظرت مد البصر لم أجد أي علامة من العلامات التي تركتها تدل على أنني في المكان الصحيح، فقررت أن أوقف سيارة أجرة وأطلب من السائق أن يوصلني إلى السوق العام في مركز المدينة، لكن المشكلة كانت تكمن في أنني لم أر سيارات الأجرة التي كنت أعرفها، والتي كانت تتمثل أساسا رينو 4 و بيجو 404، وكان إلى جانبي أناس يبدو أنهم يبحثون عن وسيلة نقل مثلي فقررت أن أتصرف مثلهم، وحين أوقفوا باصا صغيرا صعدت معهم فيه، وحرصت على أن لا أبدو غريبا لذلك كنت أراقب كم يدفع الراكب عندما ينزل فتأكد أن المبلغ هو 10 أواق، وهو مبلغ ضعف ما كنت أدفعه في باصات النقل العمومي في نواكشوط قبل أكثر من عقد، حين توقف التاريخ بالنسبة لي.
حين نزلت في السوق المركزي حوالي الساعة السابعة صباحا، كانت كل المحلات لا تزال مغلقة، فتبدد أملي في أن أجد من يدلني على مكان سكن العائلة، فقررت أن أغامر بالبحث وحدي وسرت في اتجاه المكان الذي سبق وأن قيل لي إن العائلة سكنت فيه، والذي لم يكن يوجد فيه قبل هجرتي سوى كثبان رملية ودار لتربية الخنازير، وكانت نقطة الارتكاز التي انطلقت منها للبحث هي المسجد المغربي الذي تركته قيد الإنشاء، وقد تعرفت عليه حين نزلت من خلال منارته الطويلة التي تركتها وقد اكتمل بناؤها، وعندما تجاوزته قليلا والشوارع لا تزال خالية من المارة شاهدت أمامي شخصين واقفين يتحدثان، ولما اقتربت منهما أكثر كانت المصادفة السارة التي لم أكن أتوقعها، إذ إن الشخص المقابل لي لم يكن سوى قريبي الذي التقيت به قبل عشر سنوات في ليبيا، والذي أجبرت على القول إنه ملحق عسكري بسفارة موريتانيا في طرابلس، وكان في ذلك الوقت متوجها إلى عمله في مقاطعة توجنين، حيث يمتلك مطعما هناك، وحين سلمت عليه لم يتأكد أن المسلم هو أنا إلا بعد أن قلت له إن من جمعنا في الجفرة بالجنوب الليبي يستطيع أن يجمعنا في نواكشوط، حينها عانقني وأدمعت عيناه وقد نسي أن زبناء المطعم ينتظرونه بوجبة الفطور فعاد معي من حيث أتى، وفي الطريق أخبرني بأنه لا يعرف مكان سكن العائلة بالضبط، ولكنه يعرف مكان أرملة عمي التي تعيش مع أمها وابنتها الصغيرة والوحيدة، التي ستصبح زوجة لأخي بعد ذلك اليوم بـ16 عاما، وحين وصلنا إلى الدار تفاجأ الحاضرون بعودته بعد خروجه من عندهم قبل لحظات وبصحبته عسكري، حيث إنني مازلت أرتدي تلك البذلة العسكرية التي خرجت بها من المخيمات، والتي كانت هي كل متاعي بالإضافة إلى رواية البؤساء أحملها في يدي فسألته أرملة عمي وهي تنظر إلي نظرة استغراب عن سبب رجوعه، فرد عليها بسؤال عما إذا كانت تعرف أن العسكري المرافق له هو فلان؟
وما إن أكمل لفظ اسمي حتى كنت أرى ابنتها الصغيرة، والتي هى ابنة عمي تطلق ساقيها للريح في الشارع وهي تصيح فلان جاء.. فلان جاء، ولم أكمل السلام على أرملة عمي حتى كانت هناك مسيرة تتجه نحونا لم أتعرف على أي من المشاركين فيها سوى أختي الكبرى ووالدي الذي أثرت في كثيرا قيادته لمسيرة الاستقبال تلك وعرفت مدى الألم الذي سببته لعائلتي، إذ الوالد كان من الجيل المتمسك بتقليد غريب يعيب على الرجل أن يظهر محبته لأبنائه أمام الملأ، وأعتقد أن تلك كانت المرة الأولى التي أراه يعبر فيها علنا عن حنان الأبوة.